كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما الحجاب فلا ذكر له قبل عهد المصطفى محمد صلى اللّه عليه وسلم ديانة وإن كان يستعمله أكابر الناس قبلا كما سنبينه في تفسير الآية 58 من سورة الأحزاب في أيضا إن شاء اللّه بصورة كافية شافية.
وما قيل إن {تقيا} اسم رجل شقي معروف عندهم في ذلك الزمن أو رجل صالح كيوسف النجار فغير صحيح، وهو من مخترعات القصاص وأخبار الأخباريين وأكاذيبهم، لأن الأول لا يجرؤ على الوصول لبنات الأنبياء والأعاظم كمريم عليها السلام، والثاني مشهور بالعفة يمنعه دينه من الوصول إليها وغيرها.
فأجابها جبريل عليه السلام {قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} ليس ممن يتوقع منه الشرّ الذي توهمينه حتى تستجيري بربك مني لأني رسول الذي استجرت به واستعذت أمرني أن آتيك {لِأَهَبَ لَكِ} بإذنه تعالى الذي أرسلني إليك، إذ أمرني أن أنفخ في جيبك ليكون هذا النفخ سببا في حصول الولد الذي سيكون {غُلامًا زَكِيًّا} 19 طاهرا نقيا فطنا. وأسند ضمير أهب لنفسه، لأن اللّه أرسله بذلك، وفعل الرسول ينسب إلى المرسل {قالَتْ} متعجبة مما سمعته {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} كيف يتصور ذلك {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 20 لأن الولد لا يكون إلا بنكاح أو سفاح، وكلاهما لم يكن، وهذا استفهام تعجب.
وهناك أي استفهام زكريا المار في الآية 8 استفهام استطلاع عن الكيفية والتذاذ بسماع الجواب السّار {قالَ كَذلِكِ} إن الأمر كما ذكرت لك، ولا أعلم غير ما أمرت به. ولكن {قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وإن كان مستحيلا عادة إتيان الولد من غير مس، لأن اللّه تعالى يأتي بالمستحيل من غير حاجة إلى الأسباب ألا تعلمين أنه خلق آدم من لا شيء وخلق حواء منه، فالذي يخلق من غير أم وأب ومن غير أم ألا يقدر أن يخلق من غير أب وهو الفعال لما يريد؟ بلى يسهل عليه ذلك، ثم قال لها وإن ربك قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} كما جعلنا آدم وحواء قبله آيتين للخلق في زمنهما من الملائكة والجنّ، كذلك نجعل الولد الذي سيكون منك آية لهم دالة على قدرة ربك البالغة {وَرَحْمَةً مِنَّا} لمن يؤمن به ويتبعه {وَكانَ} ابنك هذا مكتوبا في أزل ربك بأنه يكون من هذه النفخة بأمره {أَمْرًا مَقْضِيًّا} 21 محكما مبرما لا يبدل ولا يرد.
فلما سمعت هذا وعرفته أنه من اللّه سكتت، فتقدم جبريل عليه السلام وأخذ درعها من الأرض ورفعه فنفخ فيه وأعطاه إياها، فلبسته بعد أن اطمأنت إليه {فَحَمَلَتْهُ} أحست بحمله حالا، ولما بدأ حملها خافت أن يعرف الناس ذلك وهي مشهورة بالعفّة والطهارة ومن بيتهما، وعرفت أنها إذا قالت من اللّه بواسطة الملك لا يصدقونها، فصمّمت على الخروج من القرية لترى ما يرى اللّه لها {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا} 22 بعيدا عن قربتها وأهلها لئلا يعيروها، والباء في {به} للمصاحبة والملابسة لأنه في بطنها كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} الآية 22 من سورة المؤمنين في، وعليه قول المتنبي في وصف الخيل:
فمرت غير ناظرة عليهم ** تدوس الجماجم والرؤوسا

أي اعتزلتهم {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ} الجأها أو فاجأها وجع الولادة المسمى طلقا بعرفتا {إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} الكائن في بيت لحم في فلسطين وهو يبعد عن قريتها الناصرة بأربعة مراحل تقريبا، ولذلك وصفته بالبعد في الآية لانه في ذلك الزمن يعد بعدا بعيدا، وكان الجذع بالبرية على مستوى من أرض بيت لحم يابسا، فاستندت إليه وتمسكت به عند شدة الطلق، ولما رأت وحدتها وما حل بها وتفكرت بما سيصمها به قومها {قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا} الأمر الذي حل بي الذي سيصيبني منه ما يصيبني {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} 23 لم أذكر ولم أولد، فولدته عند ذلك، وقد سمع كلامها {فَناداها مِنْ تَحْتِها} قائلا لها يا أماه {لا تَحْزَنِي} على وحدتك وما سيتفوه به الناس فيك، وافرحي {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} 24 عبدا شريفا رفيعا سيدا كريما، ومن تأت بمثل هذا ينبغي لها أن تفرح لا أن تحزن.
وقال بعض المفسرين إن {سريا} جدول ماء جار هناك بمحل الولادة، ومعنى لا تحزني على الطعام والشراب معتدلا بالآية 25 الآتية وهو بغير محله، ولا طائل تحته، إذ يبعد على مثلها أن تحزن على الطعام والشراب.
وأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه عن البراء من أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن السريّ، فقال هو الجدول، وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه، فلم يصح، وإذ لم يصح لا يتخذ حجة لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال وأسقط حجيته، وإن اطلاق السريّ على جدول الماء الجاري من حيث اللغة صحيح معروف، وجاء في قول لبيد:
فتوسطا عرض السريّ فصدعا ** مسجودة متجاوزا قلامها

يصف عيرا وأتانا.
وأنشد ابن عباس:
سهل الخليقة ماجد ذو نائل ** مثل السري تمده الأنهار

إلا أنه غير مراد هنا وأراه غير موافق للواقع أيضا، إذ لا يوجد هناك في بيت لحم نهر جار البتة لا في محل الولادة ولا في غيرها، بل يوجد آبار ولعلها كانت قريبة التناول، وكانت عينّا معينا.
أما ما جاء في الآية 50 من سورة المؤمنين وهي قوله تعالى: {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} فهو غير مراد هنا بل هو في محل هجرة عيسى عليه السلام مع أمه كما سيأتي توضيحه هناك، حتى إن محل الولادة لا يوجد فيه ربوة وإنها الآن ينزل إليها بدرج تحت الأرض وقد شاهدته بعيني سنة 1935 في شهر مارس عند زيارتي للقدس الشريف والخليل، وذلك المحل المبارك.
وعلى هذا واللّه أعلم أنه لم يرد ذلك المعنى بالسريّ، وإنما معناه ما ذكرناه وهو الموافق للسياق والسباق.
وإن استعمال السريّ بمعنى السيد الكريم هو من فصيح الكلام كما أن عود الضمير في ناداها إلى السيد عيسى كما جرينا عليه أوفق وأنسب للمعنى من قول إنه يعود إلى جبريل، لأن نطقه حال ولادته من معجزاته التي جاوبها، وعلى هذا جهابذة المفسرين كالحسن وابن زيد وأبي حيان والجبائي ومجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير، ونقله الطبرسي عن الحسن يؤيده قراءة الأبوين والابنين عاصم والجحدري {من} بفتح الميم أي الذي تحتها، وروى أن الحسن وابن عباس قرأ كذلك، وفي الأسئلة النجمية كذلك أيضا، ومن قال على هذه القراءة يراد به جبريل لأنه كان تحت الرّبوة التي ولدت عليها لا دليل له على ذلك، ولا يساعده نظم التنزيل وظاهره ولا يعدل عن الظاهر إلا لأمر قسريّ، ولا يوجد، وأضعف من هذا قولهم إنه كان عليه السلام تحتها يتلقى الولد، وهذا مما لا يليق بجنابه وأمانته على وحي ربه، وعفتها وطهارتها، ومما يتأدب عنه وعن القول به كل تقي، هذا، واختلف في سنّها عند الحمل وفي مدة الحمل وزمنه أيضا على أقوال، فقيل إن سنها كان يتراوح بين العشر سنين وخمس عشرة ومدة حملها ما بين ساعة وتسعة أشهر، والمشهور أنها ثمانية، لهذا قالوا لم يعش مولود على رأس الثمانية أشهر غير عيسى عليه السلام، وذلك أن جملة المنجمين يزعمون أن النطفة تقبل البرودة في الشهر الأول من زحل فتجمد، وتقبل القوة النامية في الثاني من المشتري فتأخذ في النمو، وتقبل في الثالث القوة الغضبية من المريخ، وفي الرابع قوة الحياة من الشمس، وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة، وفي السادس قوة النطق من عطارد، وفي السابع قوة الحركة من القمر، فتتم خلقة الجنين، فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل، فإن ولد في التاسع عاش، لأنه قبل قوة الحياة من المشتري، وذلك من الخرافات لأن هذه المكونات لا تأثير لها إلا بإرادة اللّه تعالى، فمن قال هذا قبل قوله كقولهم إن الثمار تنضج بتأثير الشمس، وألوانها تكون بتأثير القمر، وأطعمتها تكون بتأثير النجوم. أما من نسب ذلك لها بقوة جعلها اللّه فيها وإرادته لذلك فلا بأس بقوله، لأن اللّه تعالى يضع ما يريده من قوى فيما يريده من مخلوقاته الجامدة والحساسة، كما يضع قوة الذبح في الموسى عند إرادة الذبح، وكما يخلق قوة الشبع والرّي عند الأكل والشرب، يفعل ما يشاء ويختار.
ومن أسند هذه القوى لنفس النجوم فقوله مردود عليه ويخاف عليه من سلب الإيمان والعياذ باللّه، وقد صرفنا النظر عن الأقوال الواردة في سن مريم ومدة حملها، إذ لا طائل تحتها، وأحسنها القول بأن سنها كان خمس عشرة سنه، ومدة الحمل تسعة أشهر، لأن القول بأن حملها وولادتها في ساعة واحدة يأباه نظم القرآن، إذ لو كان كذلك لما ذهبت من الناصرة إلى بيت لحم، بل وضعته حالا في مكانها، وهذا كاف لردّ هذا القول.
وأما زمن الولادة فهو وقت الزوال على ما جاء في أحسن الأقوال، وما قيل إنه في منتصف الليل لم يثبت ولعلها أحست بالطلق في منتصف الليل وولدته وقت الزوال.
ثم قال لها عيسى عليه السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} 25 ناضجا حان قطافه، وهذه معجزة لسيدنا عيسى عليه السلام إرهاصا لنبوته أو كرامة لأمه لا معجزة لفقد شرطيها وهو النبوة والتحدي، ووجه كونها كرامة أو إرهاصا لسيدنا عيسى أو كرامة لأمّه عليها السلام لأنها كانت يابسة والولادة كانت في موسم الشتاء (25 كانون الأول سنة 4004) من ولادة آدم كما قيل، والشتاء ليس بموسم لقطف الثمر، وفيها إشارة إلى ما يؤول إليه حاله بأنه عليه السلام {أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ} كما وصفت النخلة لأنه ولد في الأرض ورفع إلى السماء وأنه سيحيي الموتى بإذن اللّه كما أحييت النخلة الميتة، وفي الأمر بالهزّ دليل على وجوب السعي لتحصيل الرزق وإلا فالذي أحيا النخلة قادر على إسقاط ثمرها دون هزّ، وما أحسن ما قيل في هذا:
ألم تر أن اللّه أوحى لمريم ** وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه ** إليها ولكن كل شيء له سبب

{فَكُلِي} من هذا الثمر {وَاشْرَبِي} من الماء الموجود هناك وهذا ما حدا ببعض المفسرين على تفسير السريّ بالنهر كما أشرنا إليه آنفا {وَقَرِّي عَيْنًا} طيبي نفسا، والعرب تكنى بقرة العين أي بردها عند السرور والفرح وسخنها عند الغم والحزن، راجع تفسير الآية 74 من سورة الفرقان المارة تجد هذا مفصلا بما يكفيك عن مراجعة غيره، هذا وعلى ما جرينا عليه يكون المعنى إجمالا: لا تحزنى وافرحي بولدك لأنك جئت بما يرضيك، واتركي الحزن فإن اللّه قد أظهر لك ما يبرىء ساحنك مما كنت تتوهمينه قالا وحالا.
يؤيد هذا ما روي عن ابن زيد قال قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني، فقالت كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة، فأي شيء عذري عند الناس؟ ليتني متّ قبل هذا، فقال لها عليه السلام أنا أكفيك الكلام، قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} عند ذهابك لأهلك وقريتك وأراد أحدا أن يتكلم معك في هذا الشأن {فَقُولِي} لهم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا} عن الكلام لدلالة المقام عليه، وكان صوم الصمت عن الكلام عندهم معروفا ومن جملة العبادات لدى الإسرائيليين، وهو حتى الآن كذلك، وإنما أمرها بالصمت ليتكلم هو عنها ولئلا تجادل السفهاء بنفسها لأنها مهما قالت لهم لا يصدقوها، لأنه أمر لم يقع وهو فوق العقل، فكان سكوتها واجبا لحفظ كرامتها.
ثم فسر الصوم بقوله قولي: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 26 وإنما أناجي ربي وأكلم الملك وابني هذا، أي قولي لهم هذا الكلام واسكتي.
فطاب خاطرها وعلمت حجة قول ابنها، لأن تكليمه إياها فوق العقل أيضا، وإذ حصل لها اطمئنان بما سمعت من ابنها، عنّ لها أن ترجع إلى قريتها قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ} إلى بلدتها النّاصرة، فلما رأوها حزنوا لما يعلمون من صلاحها وطهارتها وأصلها، لأنها من قوم صالحين، وكان رجوعها إليهم حال كونها حاملة ولدها، قالوا وكان رجوعها إليهم بعد الولادة بأربعين يوما لا من غيابها لأنها تركت قريتها الناصرة بعد أن ظهر حملها وذهبت إلى بيت لحم خوفا من كلام السفهاء إلى محل لا يرونها لبعده إذ ذاك، لأنه لا يوجد وسيلة للنقل وركوب الإبل وغيرها من الحيوان، وبقيت هناك حتى ولدت وانقضت مدة نفاسها على أصح الأقوال المعول عليها {قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} 27 منكرا عظيما وأمرا بديعا تحتجين به، مع ما أنت عليه من الصلاح وكريم المحتد {يا أُخْتَ هارُونَ} يا شبيهته في العفة والتقوى والورع والصلاح وطيب العنصر، لا في النسب لأنها من نسل داود واسمها مريم واسم أبيها عمران، وهرون أخو موسى اسم أخته مريم أيضا، وأبوه عمران وهو من بيت الصلاح، فمن هنا جاءت النسبة، والعرب تقول أخو تميم وأخو تغلب لرجل منهم، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت خراسان سألوني فقالوا لي إنكم تقرءون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سألته عن ذلك فقال إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم، ولذلك شبهوها به.
وما قيل إن هرون آخر كان في بني إسرائيل فاسقا فشبهوها به قول باطل ينافيه سياق الكلام ومبناه لا مستند له ولا مناسبة، ومن تتمة خطابهم لها ما ذكره اللّه عز ذكره {ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} شقيا ولا زانيا {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} 28 بل كانا عفيفين طاهرين منزهين، وكان اسم أمها حنّة، مشهورة بالطهارة ومن بيت العفة، والأجدر أن يتبع الفرع أصله، فلما ذا جئت على خلاف ضئضئك ومن أين أتاك هذا الولد؟ وهنا انتهى كلامهم لها فكان جوابها لهم ما ذكره اللّه عز ذكره {فَأَشارَتْ إِلَيْهِ} بأن كلموه هو وأشارت إلى عيسى ليكلمهم فظنوا أنها تهزأ بهم وتسخر عليهم فغضبوا وخاطبوها بعنف {قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} 29 ولم تجر العادة أن يكلم مثله أو يتكلم، ولا يرد على هذا أن كل إنسان كان في المهد صبيا ثم كبر وتكلم، لأنه كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد، وهو هنا للقريب خاصة، لأن الكلام مسوق للتعجب، وكلام الكبير الذي كان في المهد قبل سنين لا يتعجب منه، فهو إيراد تافه، كما أن القول بأن كان زائدة واه إذ لا زائد في القرآن، وهي هنا تامة.
ولما سمع كلامهم مع أمه التفت إليهم عليه السلام وقطع رضاعه وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته على ما قالوا فقال لهم: {قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ} الإنجيل لأنذركم به {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} 30 حال صباي وإن معجزتي كلامي معكم وأنا طفل.
قال الحسن كان في المهد صبيا وكلامه معجزة له.
وقال أكثر المفسرين إنه أتي الإنجيل وهو صغير، وكان يعقل عقل الكمل وعبر بالماضي عن المستقبل، إما باعتبار ما سبق في أزله تعالى أو باعتبار المحقق وقوعه كالواقع. وقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبيا، وهو إخبار عما كتب له في اللوح. كما قبل لحضرة الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم متى كنت نبيا قال: كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه. وروي عن الحسن أنه ألهم التوراة وهو في بطن أمه، وهما كما ترى.
وبعد أن أخبر اللّه بأنه أعطاه الكتاب فلا حاجة للجنوح إلى ما جاء في الحديثين بل علينا أن نعتقد أنه كما ولد بأمر اللّه من غير أب وأنطقه وهو طفل أعطاه الكتاب وعلمه إياه بإلهام منه وهو طفل أيضا.
ومن عرف اللّه بأنه الفعال لما يريد القادر على كل شيء لا يحتاج إلى التأويل والتفسير، وعلى العاقل أن يصدق بكل ما جاء من عنده، وهذا طريق السلام،
قال عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبارَكًا} نفاعا قاضيا للحوائج آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، أبرىء الأكمه والأبرص وأشفي المرضى بإذن اللّه وهذا هو المبارك ولا أعظم بركة من هذه البركة التي شرفه اللّه بها، فالإله الذي يعطيه ذلك ويعطيه إحياء الموتى أيضا وخلق الطير أفلا يعطيه الإنجيل ويحفظه إياه؟ بلى وهو على كل شيء قدير {أَيْنَ ما كُنْتُ} ليس في أرضكم وبلدكم هذه فقط بل في كل مكان حللت فيه وزمان وجدت فيه أكون هكذا معلما للخير مباركا نفاعا {وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا} 31 في الدنيا لأن الآخرة لا عبادة فيها، والصلاة والزكاة عبادة تنقطع بالموت، لذلك جعل نهايتها الحياة وهذان الفرضان تعبّد اللّه بهما كل أنبيائه وأممهم وكذلك الصوم والقصاص إلا أنها كانت مفرقة على الأنبياء على غير هذه الصفة والقدر المبين في شريعتنا، لأن نبينا صلى اللّه عليه وسلم جاء بشريعة جامعة لما تشتت من شرائع الأنبياء قبله، ولم تجمع الصلوات الخمس إلا له ولأمته، فالصلاة والزكاة من حيث الأصل فرضت على جميع الأنبياء وأممهم كما يفهم من الآية 183 من سورة البقرة، ولكن تختلف في الكيفية والكمية عما فرض علينا {وَبَرًّا بِوالِدَتِي} أوقرها وأكرمها وأعظمها على سائر الناس، وفي تخصيص برّه بوالدته اشعار صريح بأنه لا والد له وإيذان ببراعتها مما رموها به، وإشارة بطهارتها وعفافها، ولهذا استحقت البر منه {وَلَمْ يَجْعَلْنِي} ربي الذي منّ علي بما ذكرته لكم {جَبَّارًا شَقِيًّا} 32 متكبرا عاقا عاصيا، وفي قوله جبارا إعلام بنزاهة أمه أيضا مما وصمت به بسببه، قال بعض العلماء لا تجد العلق أي ابن الزنا إلا جبارا.
ولهذا نفى عنه عليه السلام هذه الصفة الخبيثة: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} 33 تقدم تفسير مثلها في الآية 15 المارة، وقد أخبر بهذه الآية قومه بأنه عليه السلام آمن عند ربه في هذه المواطن الثلاثة التي قل من يأمن منها، وفي بدء جوابه عليه السلام لقومه اعتراف على نفسه بالعبودية للّه، كأنه نفت في روعه أن من الناس من يتخذه إلها فنبّه قومه مقدما بأنه عبد اللّه من جملة عيده تبرأ مما سيقوله المتوغلون في حبه واعتذارا مقدما إلى ربه ليكون حجة له عنده وحجة على الذين يتخذونه إلها فمن قومه من قنع وصدق، ومنهم من استعظم وكذب، ونشأ صلى اللّه عليه وسلم على أكمل الأوصاف في غاية من التواضع ونهاية في الأدب يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب ولم يتخذ مسكنا له ويتصدر لقومه ويقول سلوني عن أموركم فإني لين القلب صغير النفس، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 45 فما بعدها من آل عمران، قال تعالى: {ذلِكَ} الذي خلقناه من روحنا على الوجه المار ذكره والذي وصف نفسه بتلك الصفات هو {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} نبيّنا ورسولنا وعبدنا لا إله ولا جزء من الإله ولا شريك معه، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أقول لكم هذا أيها الناس {قَوْلَ الْحَقِّ} على قراءة النصب وهي الواردة في القرآن، وعلى قراءة الرفع يكون المعنى أن هذا الذي قلته في عيسى عبدي هو قول الحق الصدق: {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} 34 يشكون ويختلفون فيقولون الأقاويل الكاذبة فيه وهو عبد اللّه ورسوله ولد من مريم بلا أب على الوجه المار ذكره والصفة المبينة، لا مرية فيه أبدا، وعليه فإن ما تقوله اليهود بأنه ساحر وما يرمونه به كذب محض، وما تقوله النصارى من أنه ابن اللّه افتراء بحت، وما يقوله الغير من وصم أمه الطاهرة الزّكية بهت ظاهر، وقد بين اللّه كذبهم كلهم بما تقدّم من الآيات وما سيأتي في الآيات المبينة آنفا وغيرها، وحققه بقوله جل قوله: {ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} البتة لعدم الحاجة إليه وقد نزه نفسه عنه بسورة الإخلاص المارة وفي الآية الأخيرة من سورة الإسراء الآتية وغيرها {سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْرًا} كهذا وغيره مهما كبر وعظم عند خلقه إذ لا يعظم عنده شيء {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 35 حالا لا محالة وهاتان الآيتان من ذلك إلى هنا من كلام الرب عز وجل جاءتا اعتراضا بين قوله على لسان عيسى قبلها وبين قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وحده لا تشركوا به شيئا.